منذ كان الإنسان وهو يبني بيد ويهدم بيد .. وحتى اليوم ما هدم فاستراح من البناء , ولا بنى فاستراح من الهدم .. فلا بناؤه يثبت , ولا هدمه يدوم , ويا ليته كان في مستطاعي أو مستطاع أي بشر أن يحصي لكم كلّ ما بناه الإنسان من مدن وحصون وقرى , قبل التاريخ , وبعده , وكل ما شاده من حضارات , وشيّده من ممالك , وكلّ ما خلقه من آلهة وأديان , وابتدعه من علوم وفنون , وكلّ ما استنبطه من فلسفات ومعتقدات , وشرائع وأوضاع , ثمّ انقلب عليها أو انقلبت عليه ــ إذن لأيقنّم أن مدنية تعيشون في ظلّها الآن ليست سوى بنيان متداع شيد من أنقاض مدنيات تداعت فانهارت من زمان , وأن لا بد لهذا البنيان من الانهيار ــ فالأسس التي شيد عليها ليست بأثبت من أسس أسلافه , ويا لهول ساعة الانهيار ! .إنّها ساعة قد تدوم قروناً وقد تدوم دهراً , لكنها لن تنقضي قبل أن تقضي على أوهام الإنسان بأن في قدرته أن يبني ما يدوم ممّا لا يدوم , وما يثبت ممّا لا ثبوت له , وأن يجني من البغضاء محبة , ويستقطر من شفرة السيف سلاماً , وأن يسعد بشقاء غيره , وأن يلجأ من الموت إلى ملاجئ يحفرها في التراب بالرفش والمعول , وأن ينعتق من عبوديته لجاره قبل انعتاقه من عبوديته لنفسه .وإنّها لساعة مثقلة بالأوجاع , فليس أصعب من أن يُكرَه الإنسانُ على أن يهدم بيساره ما بنته يمينه .. وأنا لا أزال أحمل من ذكريات صباي ذكرى بيت صغير صرفت ساعات لذيذة في بنائه من الحجارة الصغيرة , فما انتهيت منه إلّا والشمس قد أشرفت على المغيب .. لكنني بقيت حتى دهمتني الظلمة وأنا أبتعد عنه ثمّ أدنو منه , وعيني مترعة بالإعجاب , وقلبي طافح بالغبطة ــ فقد شعرت أنّني خلقت شيئاً ــ ولولا خوفي من والدي لبتّ ليلتي بجانب بيتي الصغير , وما إن انبلج الصبح حتى هرولت إلى البيت أتفقده بلهفة وأتحسّس حجارته وترابه بشوق ــ وإذا بوالدي يلمح البيت ويلمحني عن بعيد فيأمرني بلطف أن أهدمه في الحال وأنقل حجارته من هناك لأنّه مزمع أن يحرث الأرض بما فيه البقعة الصغيرة حيث شيدت بيتي الصغير .. فأنصاع لأمر والدي وفي القلب دموع كأنّها الجمر , وفي العين دياجير لا يخترقها شعاع رجاء , وفي النفس قنوط حتى من عدل أبي الذي في السموات .إن حكايتي الصغيرة مع بيتي الصغير لهي حكاية الإنسانيّة الكبرى مع بيتها الأكبر الذي هو مدنيتها , تفاوتت المقادير أمّا النسبة فواحدة . فالإنسان ما ينفك يبني حيث لا ينبغي البناء , وعلى أسس لا تصمد للزمان ولا للعناصر ــ فلا يلبث أن يأتيه الأمر بهدم ما بناه ــ وإن هو لم يهدمه هدمته العواصف والصواعق والزلازل , ولكم في هذه الحرب أصدق شاهد على ذلك وأبلغ مثال .لقد قام الناس اليوم ــ عن رضى وغير رضى , وعن وعي وعن غير وعي ــ يهدمون بعنف لا مثيل له في التاريخ ما أنفقوا الأجيال الطوال في بنيانه وتحصينه , فالنتيجة تتطاير تطاير الفراش , والصوالجة تتحطّم كأنها الهشيم , والتخوم تتنقل كالظلال , وتقفر الدور والقصور , وتبور الأرض , وتندك المعابد , وتلتهب المصانع والمعاهد , ويولم الناس من لحومهم ولائم لأسماك البحر وديدان التراب وضواري الغاب وكواسر الجو, وتهيم أرواحهم من جحيم إلى جحيم نادبة ما كان , حانقة على القدر , مخبولة بحبّ الانتقام والأخذ بالثأر .فيا ويل النادبين ! إذ ماذا عساهم يندبون ؟أيندبون معاهد أقاموها للعلم فكانت أعشاشاً للجهل ؟ فها هي ذي المعرفة لا تزال ترفرف فوق رؤوس الناس , وإلى اليوم ما رأيت أثراً حتّى لريشة من جناحيها في شهادة من معهد علمي كبير أو صغير ــ فللمعرفة ثمرة هي الطمأنينة . وللجهل ثمار هي الخوف والقلق والنزاع فالموت ــ فلو أنّ معاهد الناس العلميّة أثمرت حتّى اليوم طمأنينة لما كان ما تشهدون من الذعر والتدمير والتقتيل .أم يندبون قصوراً شيدوها للعدل ؟ وها هوذا العدل لا يزال تائهاً في الفيافي والقفار , وحتى اليوم ما وطئت قدماه عتبة من عتبات القصور الكثيرة التي وقفها الناس عليه وشادوها باسمه .أم يندبون الحرية ؟ وها هي ذي الحرية ما تنفكّ تقرع قلوبهم وليس من يفتح لها الباب . فقلوب الناس مرصوفة بحبّ الأثرة والمجد الباطل والاستسلام لكلّ أصناف المخاوف والشهوات . والحرية لا تسكن قلوب المستأثرين والمنفوخين بالعظمة الفارغة والمسوقين بسياط الشهوات والمخاوف . وهي لا تؤخذ ولا تعطى , ولا تحتاج إلى من يناضل عنها , وحيثما حلّت حلّ السلام , ومع السلام القوّة التي لا تُقهر , ومع القوّة الحصانة التي لا يظفر السيف منها بغير الخيبة والانكسار .أم يندبون السلم والرخاء ؟ وهم حتى الساعة ما عرفوا طعم السلم الصحيح , لا في قلوبهم ولا في أفكارهم , ولا في بيوتهم , ولا في نومهم , ولا في يقظتهم . أمّا الرخاء الذي يندبون فرخاء قد يكون أن بطون القليل منهم عرفته فترات قصيرة من الزمن , لكن بطون السواد الأعظم منهم قد جهلته الزمانَ كلّه ــ فما كان يوم واحد ساد فيه السلم وعمّ الرخاء .ويا ويل أولي النقمة والثورة ! إذ ممّن عساهم ينتقمون , وممّن يثأرون إلّا من أنفسهم ؟ أحبلت النقمة يوماً بغير النقمة , أم ولد الثأر إلّا الثأر ؟ويا ويل الشامتين والمتبجحين ! إذ بمن عساهم يشمتون وبماذا يتبجّحون ؟ أيشمتون بانكسار المنكسرين , ويتبجّحون بانتصار المنتصرين ؟ فأحرِ بهم إذن أن يشمتوا بكلّ إنسان , وبأنفسهم قبل الناس . وأن يتبجّحوا بانتصار إبليس , إذ ليس من غالب في حروب الناس غير إبليس . وليس من مغلوب سوى الإنسان , وأعني بإبليس كلّ نزعة تعرقل الإنسان في مسيره إلى المعرفة الكاملة والحرية القصوى والاستقرار المحصن بحقيقة الوجود التي لا تتبدّل ولا تتحوّل .فما الحروب بكلّ أنواعها ــ من حرب قايين وهابيل حتى هذه التي تدور رحاها اليوم علينا أجمعين ــ سوى دليل قاطع على أن الإنسان المعتزّ بقدرته ومعرفته لا يزال بعيداً ــ وبعيداً جدّاً ــ عن القدرة الحقّة والمعرفة الصحيحة . إذ لو كانت له القدرة الحقّة لتمكّن حتى اليوم من بنيان عالمه على أسس لا تعبث بها العناصر ولا تزعزعها الزلازل , ولو كانت له المعرفة الصحيحة لعرف كيف يستقرّ في عالمه ذاك فلا يُكرَه على هدمه . لكنّه ما ينفكّ يبني عالمه ثمّ يهدمه ليعود فيبنيه من جديد من أنقاض عوالمه القديمة , وإن بدّل في شيء ففي الشكل والهندسة , وفي ظروف الزمان والمكان , أمّا المواد فهي هي . وأما المهندس فهو هو . فلا البنيان يبلغ يوماً تمامه . ولا الهدم يقف عند حدّ . ولا الإنسان يستقرّ على حال من الأحوال .والاستقرار هو الهدف الذي يصبو إليه الإنسان بكلّ جوارحه . لكنه حتى اليوم ما سلك إليه السبيل السويّ . فهو لكثافة الحجب التي على عينيه لا يزال يحسبه بالغاً الاستقرار الذي ينشد إذا ما استقرّت تخومه ونظمه , وأوضاعه وتقاليده , وتجارته ونقده , واستقرّت حاله واحدة مع الطبيعة والموت . فكأنّه ما علم ولا علّمته التجارب أنّ هذه كلّها ليست سوى فقاقيع تطفو على أمواج يتقاذفها مد الأهواء وجزرها . فلا استقرار لها . ولا راحة فيها . ويا لشقاوة المتمسكين بها والعاقدين آمالهم عليها !يا لشقاوتهم ! فما أسرع ما تطغى عليهم موجة فتغرقهم . و تنتابهم هزّة فتقتلعهم بجذورهم . أو تهبّ عليهم عاصفة فتتركهم أشلاء مبعثرة . فهم كالسمكة تسبح في ضحضاح محصور من مياه الأمطار فلا يقبل الصيف بأهويته الحارة وشمسه اللاهبة حتى يجفّ الضحضاح , وبجفافه تجفّ الحياة في السمكة . وهم كأزهار الربيع النابتة في خلايا الصخور , لا يطل عليها حزيران حتى تذوي فتغدو هشيماً ــ وهم كسحاب تموز تسوقه الريح من هنا إلى هناك فلا تلبث أن تمزّقه وتبدّده فكأنّه ما كان .وما أكثر الذين جفّت مياههم , واقتلعت جذورهم , واضمحلّ عبير حياتهم , فأظلمت شموسهم , واربدّ وجه سمائهم , وعسكر اليأس في قلوبهم , وبلبل الذعر أفكارهم , لا لشيء إلّا لأنّهم بنوا عالماً تخيلوه عالم استقرار وثبات وراحة , فإذا بأسسه تميد إذ تهبّ عليها عاصفة هوجاء من شقاء المتعبين والمرهقين والمنسيين والذين ضاق بهم ذلك العالم فضيّق عليهم أنفاسهم وإذا بعالمهم ينهار ويتمزّق كأنّه بيت العنكبوت . وإذا بهم ــ والهدم لا يزال على قدم وساق ــ يلملمون منذ الآن أنقاض عالمهم ويجهدون الفكر في بنيان عالم جديد منها ــ وحظ عالمهم الجديد من الثبات لن يكون أوفر من حظ عالمهم القديم .لئن حقّت الشفقة على إنسان فهؤلاء بها حقيقيون . وأحقّ منهم أولئك الذين يصرخون في الناس: (( لقد تفاقمت شروركم وتكاثرت معاصيكم , وها أنتم تنالون جزاء الشرّ والمعصية . )) وهم يعنون بالشرّ القتل والسلب والتدمير والفحشاء بأنواعها . كأنّ هذه ما وُلدت إلّا أمس , وكأنّها ما لازمت البشرية منذ أصبح الإنسان ذكراً وأنثى . أجل . إن هذه كلّها لثمار من شجرة الشرّ , ولكنّها ليست الشجرة , فلو صحّ للناس إتلافها لما أتلفوا معها الشرّ ــ إذ أن إتلافكم للثمر لا يتلف الشجرة التي حملته .لا . ما ازداد الشرّ ولا تفاقم , وإن تنوّعت أثماره وكثر عدد المقبلين عليها بنهم الجائع وشغف المتيّم . فالشرّ ما برح كما كان منذ كان . مثلما ما برح الخير خيراً منذ كان الخير , والحقّ حقّاً منذ كان الحقّ , والشرّ قائم في وهم الإنسان أن في مستطاعه أن يحيا بغير حياة الله , وأن يجني من حياته ثمرة أشهَى من الله , وأن يبني عالماً ثابتاً من غير أن يؤسسه على الله .كل ما في السماء وعلى الأرض يحول ويزول . لكنما القدرة التي لولاها لما كانت أرض ولا سماء لا تحول ولا تزول . فأحرِ بالإنسان الطامح إلى الاستقرار , الناشد الطمأنينة الأبدية , الساعي وراء الانعتاق من قيود المكان والزمان , أحرِ بصورة الله الناطقة ومثاله الحي أن يبني عالمه على تلك القدرة لا على ما يتناوله بحواسه المحدودة من مظاهرها المحسوسة .أحرِ به أن يمحو التخوم والحدود التي يقيمها بينه وبين أخيه الانسان , إذ لا تخوم في الله ولا حدود .أحرِ به أن يجعل من قلبه مائدة لكلّ ما في الكون مثلما كلّ ما في الكون مائدة لقلبه .أحرِ به أن يعانق بفكره كلّ المخلوقات مثلما تعانق كلّ المخلوقات فكره .أحرِ به أن يغسل بدمه وِزر جاره بدلاً من أن يلبس من دم جاره وزراً فوق أوزاره .وأحرِ به , وهو ما يزال في طور التجربة ــ طور الهدم والبناء ــ ألّا يجعل قلبه حجراً في بنائه مخافة أن يحطم قلبه كلّما أُكره على هدم الذي بناه .أما من بعد أن يهتدي إلى الأساس الذي لا يتزعزع فليكن كلّه في البناء . بل ليكن هو البناء كلّه .حينئذ ــ لا قبل ــ يستريح الإنسان من شقاء الهدم وعناء البناء . وإلى أن يتمّ له ذلك ستبقى حياته أنقاضاً تشاد على أنقاض . وسيبقى خرابه وعماره فرسَي رهان . والتجريب الذي تشهدونه اليوم أو تسمعون به ليس سوى مويجة ستعقبها موجات تتضاءل كلّ واحدة منها إزاء هول التي تتلوها , وهكذا حتى تكون الموجة الكبرى من الخراب الأكبر . ولعلّ الإنسان يصحو إذ ذاك من سكرة التشييد والتدمير , فيسمع صوت الحرّاث الإلهي يهيب به إلى تنظيف الأرض من خرائب مدنياته لأنّه مزمع أن يحرثها من جديد ليعدها لبذار حياة جديدة .فيا لطوبَى السامعين ذلك الصوت والفاهمين ما يقول , والعاملين منذ الآن على تنقية قلوبهم من أدران الضغائن والأحساد والمطامع . هؤلاء سيثبتون في وجه العاصفة , وسيكونون حجارة الزاوية في بنيان الانسانيّة العتيد الذي سيطرح عليه الله وشاح ألوهيّته , ويقيم أُسسه على وحدانيّته . فتغفو الدهور على عتباته , ويضيع الفضاء في جنباته , ويخيم السلام في عرصاته .ميخائيل نعيمه … « الهدم والبناء ــ من كتاب البَيَادر
نحن معكم على مدار الوقت
زيارة وارث مكتوبة.. زيارة أبي عبدالله الحسين (ع)
خطبة النبي الأكرم (ص) في يوم الغدير كاملة مكتوبة
في اليوم العالمي للحمير.. العالم يحتفل بالحيوان الأكثر خدمة للبشر