ديسمبر 21, 2024

رساله الحريه والكرامه والعداله في زمن العبوديه

نهضة الحسين ع مواقف وقِيَم

اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ”.

جاء في كتاب الفتوح: فَبَينا عُبَيدُ اللّهِ بنُ زِيادٍ مِن هؤُلاءِ القَومِ في مُحاوَرَةٍ، إذ دَخَلَ عَلَيهِ رَجُلٌ مِن أصحابِهِ يُقالُ لَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ يَربوعٍ التَّميمِيُّ، فَقالَ: أصلَحَ اللّهُ الأَميرَ، ها هُنا خَبَرٌ، فَقالَ لَهُ ابنُ زِيادٍ: وما ذاكَ؟ قالَ: كُنتُ خارِجَ الكوفَةِ أجولُ عَلي فَرَسي واُقَلِّبُهُ؛ إذ نَظَرتُ إلى رَجُلٍ قَد خَرَجَ مِنَ الكوفَةِ مُسرِعاً يُريدُ البادِيَةَ، فَأَنكَرتُهُ، ثُمَّ لَحِقتُهُ وسأَلتُهُ عَن حالِهِ وأمرِهِ، فَذَكَرَ أنَّهُ مِن أهلِ المَدينَةِ: ثُمَّ نَزَلتُ عَن فَرَسي فَفَتَّشتُهُ فَأَصَبتُ مَعَهُ هذَا الكِتابَ. قالَ: فَأَخَذَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ زِيادٍ الكِتابَ فَفَضَّهُ وقَرَأَهُ، وإذا فيهِ مَكتوبٌ:

بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، لِلحُسَينِ بنِ عليٍّ، أمّا بَعدُ، فَإِنّي أخبِرُكَ أنَّهُ قَد بايَعكَ مِن أهلِ الكوفَةِ نَيِّفٌ وعِشرونَ ألفاً، فَإِذا بَلَغَكَ كِتابي هذا، فَالعَجَلَ العَجَلَ، فَإِنَّ النّاسَ كُلُّهُم مَعكَ، ولَيسَ لَهُم في يَزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ رَأيٌ ولا هَوىً، وَالسَّلامُ.

قالَ: فَقالَ ابنُ زِيادٍ: أين هذَا الرَّجُلُ الَّذي أصَبتَ مَعَهُ هذَا الكِتابَ؟ قالَ: بِالبابِ، فَقالَ: إيتوني بِهِ، فَلَمّا دَخَلَ ووَقَفَ بَينَ يَدَي ابنِ زِيادٍ، فَقالَ لَهُ: مَن أنتَ، قالَ: أنَا مَولىً لِبَني هاشِمٍ، قالَ: فَمَا اسمُكَ، قالَ: اسمي عَبدُ اللّهِ بنُ يَقطينَ، قالَ: مَن دَفَعَ إلَيكَ هذَا الكِتابَ؟ قالَ: دَفَعَهُ إلَيَ امرَأَةٌ لا أعرِفُها. قالَ: فَضَحِكَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ زِيادٍ وقالَ: أخبِرني واحِدَةً مِن ثِنتَينِ: إمّا أن تُخبِرَني مَن دَفَعَ إلَيكَ هذَا الكِتابَ، فَتَنجُوَ مِن يَدي، وإمّا أن تُقتَلَ.

فَقالَ: أمَّا الكِتابَ فَإِنّي لا أُخبِرُكَ مَن دَفَعَهُ إلَيَّ، وأمّا القَتلَ فَإِنّي لا أكرَهُهُ، فَإِنّي لا أعلَمُ قَتيلاً عِندَ اللّهِ أعظَمَ مِمَّن يَقتُلُهُ مِثلُكَ.

قالَ: فَأَمَرَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ زِيادٍ بِضَربِ عُنُقِهِ، فَضُرِبَتَ رَقبَتُهُ صَبراً.

هذا مشهد من مشاهد النهضة الحسينية المباركة، مشهد مُفعم بالبطولة والرجولة والشجاعة والشهامة والإباء والأمانة، يقدِّمه لنا عبد الله بن يقطين على مسرح المواجهة مع الطُّغاة الظالمين، غير آبِهٍ بجبروت وصلافة وقسوة الطاغية الظلوم الغاشم عُبيد الله بن زياد، الذي عُرِف بالبطش والتنكيل والظلم، غير مراعٍ لأي حقٍ من حقوق الإنسان، ولا مبالٍ بقِيَم أخلاقية إنسانية، ناهيك عن جرأته على الله تعالى وتَعَدِّيه حدوده في عباده وبلاده.

عبد الله بن يقطين يقف أمامه شامخاً لا يتزلزل ولا يخاف ولا يخشى أن يقتله الطاغية، يصرِّح عن اسمه ويصرِّح أيضاً عن ولائه ويقضي آخر لحظات من حياته محافظاً على الأمانة التي استُرعِيَها، ولئن عجز عن إخفاء الكتاب الذي كان مُوَكَّلاً بإيصاله إلى الإمام الحسين (ع)، لكنه كتم اسم الشخص الذي دفع إليه الكتاب يريد أن يحفظه من القتل، فيؤثره بالحياة ويختار الموت دونه، ويقول: إن الذي دفعه إليه امرأة لا يعرفها، وهذه بطولة وشجاعة ووفاء لا يتصف به إلا الرجال الذي امتلأت قلوبهم بالإيمان.

أما ابن زياد -وهو الداهية- يعرف أن امرأة لا تدفع كتاباً هذا مضمونه إلى الرجل ليوصله إلى الحسين، ويدرك أن عبد الله بن يقطين يُصِرُّ على كتمان سِرِّه، فيخيِّره بين اثنتين: إمّا الاعتراف لينجو أو القتل، وهذا ديدنه في التعامل مع المخالفين، بل ديدن الحزب الأموي الذي لم يكن ليصفح عن أحد من مخالفيه، بل يسارع إلى التنكيل والقتل يعاقب به كل من يخالفه، ويجد فيه الوسيلة المُثلى للتخلِّص من أعدائه ومناوئيه، حتى أنه كان يقتل على التُّهمة والظِّنَّة دون محاكمة أو استجلاء للحقيقة، وكيف لا يكون منه ذلك وكثير من أفراده كانوا بين كافر حقيقة، أو فاسق فاجر إن أحسَنَّا الظَّنَّ؟!

عبد الله بن يقطين يمضي على ثباته في لحظاته الأخيرة، فبعد أن يُخَيِّره الطاغية يختار القتل على النجاة والشهادة على الحياة، -والحياةُ مع الظالمين بَرَمٌ ومَلَلٌ وسأمة- ويُصَرِّح هذا الشهيد المُخلِص بأنه لا يكره القتل ولا يخافه ولا يرهبه، ولا عجَبَ في ذلك فمن كان مولىً لبني هاشم، عائشاً في كنفهم فمن الطبيعي أن يتطبَّع بطباعهم، وأن يكتسب منهم مكارمهم وفضائلهم، ومن فضائلهم الترحيب بالقتل واختياره على الموت العادي، فهذا سيَّد بني هاشم بعد النبي الإمام أمير المؤمنين (ع) يُصَرِّح قائلاً: “إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ”.

وفي كلام عبد الله بن يقطين إضافة مهمَّة توضِح لنا ما نسمعه من مجاهدينا وشهدائنا من رغبتهم بالشهادة على أيدي الطغاة المستكبرين، قال الرجل: “إِنّي لا أعلَمُ قَتيلاً عِندَ اللّهِ أعظَمَ مِمَّن يَقتُلُهُ مِثلُكَ” إن القتل على أيدي الطغاة مفخرة وكرامة للمقتول، فهو شهادة له أنه على الحق الذي لا لَبسَ فيه من جهة، وشهادة له من جهة أخرى بأنه قارع الطغيان وقاوم الظلم ولم يخنَع له أو يستسلم، وبهذا يكون مقتله على أيديهم بطاقة عبور سريع له على الصراط يوم الدين.

السيد بلال وهبي

YouTube
YouTube