الانتفاضة وقفت منذ بداياتي المبكرة علي حجم القمع الذي تعرض له الشيعة في الجنوب؛ فقد كانت أول وظيفة لي أتولاها في العراق بعد إنهائي دراستي التخصصية في لندن عام 1972 هي في مستشفي البصرة. ذات مرة كنت في خدمة الطوارئ عندما أحضر اثنان من رجال الشرطة معتقلا من السجن لأفحص يديه اللتين كانتا محترقتين احتراقا شديدا. كان الجرح في ظهر اليد مثلث الشكل، وكان كل من الجلد، والأوتار، والعضلات محترقا حتي العظم.
«استعملوا كواي عادية جدا»، قالها المريض، وهو يحكي عن الوسائل التي تستخدمها الشرطة السرية. كان محاميا بارزا أوقف نفسه للدفاع عن حقوق الشيعة.
في ذات يوم أتاني ضابط برتبة نقيب يعمل في الشرطة السرية. كان مكتئبا وحزينا.
قال: «لقد تلقينا الأوامر بالنزول إلي الشارع، وبمنع الناس من إعداد الطعام للفقراء في ذكري الحسين».
في ذكري أربعين الإمام الحسين يعد الشيعة ميسورو الحال الطعام لغيرهم من إخوانهم الأقل حظا من المال. في يوم الجمعة هذا يتم وضع قدور كبيرة من اللحم المطبوخ، والأرز، والمرق في الشارع.
قال لي النقيب: «عند إعداد الطعام علينا قلب المراجل رأسا علي عقب لإفساد الطعــام. لا أعــرف لمــاذا؟ إن هــؤلاء البؤســاء لا يشـكلون أي تهديد للسلطات؛ فهم لا يستطيعون حتي إيذاء ذبابة».
لم تمر أيام طوال بعد الانهيار العسكري في الكويت حتي أدرك صدام وبقية نظامه أن القوات المتحالفة لن تزحف علي بغداد، فقد كان الرئيس الأمريكي جورج بوش راضيا بما حققه. لم تتحرك القوات المتحالفة إلي الخطوط الأمامية بعدما حررت الكويت. كما لم يكن هناك بوادر لانقلاب قد يقوده بعض اللواءات الغاضبين، ولذلك ظهر ــ وكأنه كيد ساحر ــ الوزراء، وغيرهم من موظفي الدولة، ورؤساء الشرطة، وممثلو حزب البعث مرة أخري في مكاتبهم.
قمع الانتفاضة عاد صدام مرة أخري إلي سدة الحكم، ولم يتردد في التعامل الفوري مع الشيعة في الجنوب. استطاع صدام في الوقت المناسب سحب قطاعات كبيرة من الحرس الجمهوري قبل عملية عاصفة الصحراء من منطقة العمليات الحربية، مما سمح له وقتها باستخدام تلك القوات الخاصة ضد الثوار الذين افتقروا إلي التنظيم المطلوب، والذين لم يكن بحوزتهم أسلحة ثقيلة. لقد كان التعامل معهم بالنسبة إلي صدام لعبة سهلة.
كان البيت الأبيض مترددا لبضعة أيام، لكن سرعان ما أتت من واشنطن إشارات أكثر من واضحة من أن الولايات المتحدة لن تتحالف مع الثوار.
قبل بدء التمرد أُرسل صديقي الفريق ركن نزار الخزرجي إلي جنوب العراق ليتولي القيادة العسكرية في الناصرية. تذكروه وقتها من جديد، وعينوه «مستشارا» للرئيس.
قال له صدام: «من المحتمل أن الأمريكان يريدون الاستيلاء علي المدينة بمساعدة قوات الإنزال الجوي. لا بد أن تتوجه إلي هناك، وتتولي إجراءات التنظيم الدفاعية».
توجه الخزرجي إلي هناك مع هيئة مكونة من ثلاثين ضابطا، وقائدا، ومن بينهم أيضا ابنه نفسه. وما إن وصلوا إلي الناصرية، حتي بدأت الانتفاضة.
«ما إن نصبنا معسكرنا في بيت من بيوت المدينة حتي فوجئنا بأننا محاصرون، وبأن النيران تُصب علينا من كل الاتجاهات. فقدت معظم رجالي، وأُصبت أنا أيضا في البطن. وكل ما أستطيع تذكره أنني ألقيت رأسي في حِجر ابني. اتشح كل شيء بالسواد. لم يكن هناك سوي ضوء نجم لامع اخترق الظلماء، قبل أن أفقد الوعي».
الخزرجي لصدام: كم يكرهوننا استيقظ الخزرجي في مستشفي الناصرية. قام أحد الجراحين بخياطة البطن بقدر ما استطاع؛ فقد كان محاصرا بكثير من الثوار. كان واحد منهم ذا لحية طويلة وعصابة خضراء علي الجبين.
قال «إنني علي جانب كبير من الأهمية، وإنهم يريدون الإبقاء عليّ حيا».
بعدها بيومين استولي الجنود علي المستشفي، وعثروا علي الخزرجي. كان ابنه كذلك علي قيد الحياة، وتم تحريره. نقل الخزرجي بالطائرة الهليكوبتر إلي بغداد، حيث أُحضر إلي مستشفي ابن سينا. ذهب صدام لزيارته علي الفور للوقوف علي ما حدث.
قال له الخزرجي: «إنه شيء لا يكاد يصدقه العقل.. إلي أي مدي رهيب يكرهنا هؤلاء البسطاء. حتي النساء هجمن علينا ببنادق الكلاشينكوف. لا بد أننا أمعنا في ظلمهم إمعانا كبيرا».
رأيت كيف شحُب وجه صدام؛ فلم يرق له ما سمعه، فمنذ دهر سحيق لم يحدث أن قيل له في وجهه إن النظام لم يكن محبوبا علي الدرجة نفسها في كل مكان، وأن الناس لم يكونوا بالضرورة يحبونه كما كان يتوهم.
«د. علاء سيوليك عنايته علي أفضل ما يكون» كان هذا كل ما قاله لرئيس هيئة الأركان السابق قبل أن يدلف من الباب محتجبا.
لم يتحدث صدام مطلقا عن الأمر، لكنني كنت واثقا من أن الانتفاضة كانت صدمة له؛ فكــل التقــارير التي تلقاها من قيادات حزب البعث، والأمن، والمخابرات كانت لا تنقل له سوي أخبار شعب راض وسعيد في كل أنحاء العراق، مغفلة ما دون ذلك من أخبار.
كانت حالة الخزرجي سيئة للغاية؛ فالإصابة التي لحقت به في منطقة البطن لم تُخيّط بشكل صحيح، حيث خرجت الأمعاء والأحشاء من جدار تجويف البطن.
باستعمال الداكرون، وهو نسيج صناعي، وبكل ما لديّ من خبرة في مجال جراحة الحروب، وُفقت في إعادة خياطة الإصابة وفي إنقاذ حياته.
وحينما وقف الخزرجي علي قدميه مرة أخري بعدها بعدة شهور لم يعد صدام مهتما بخدماته كلواء، فرُكن الخزرجي علي الرف.
خنصر صدام في يوم السابع من مارس، والحرب الأهلية علي أشدها، أقلني في الضحي اثنان من حرس صدام الخاص لأتفقد حالة خنصر الرئيس.
في بادئ الأمر أقلاني إلي منزل صغير علي مقربة من الجسر المعلق فوق نهر دجلة الذي حطمته القنابل، حيث كان ينتظر هناك اثنان آخران من الحرس الخاص، وتوجها بي إلي قصر الرئيس في الرضوانية. أما الجسر المدمر الذي يمر فوق الطريق السريع للسيارات والمؤدي إلي المطار الدولي فقد تم إصلاحه بعد الحادث المؤسف الذي تسبب فيه سائق سيارة النقل في العام السابق له.
في صالة الانتظار بالقصر كان عليَّ الانتظار بعض الوقت سويا مع عبد حمود، سكرتير الرئيس، وأصغر أبنائه قصي. ظهر صدام علينا مرتديا معطفا حربيا أسود اللون. صافح صدام ابنه وعانقه بطريقة تنم عن أنه لم يره منذ فترة طويلة.
بعدها تحول صدام إليّ.
«كيف حالك، يا طبيب، يا عظيم»؟
أجبته: «بخير»، لألقي بعدها نظرة متفحصة علي خنصره الذي كان في أثناء ذلك قد شُفي شفاء كاملا.
«ما تعليق العراقيين علي الأحداث»؟
«آسف يا ريس، لكنني لم أتحدث مع ما يكفي من العراقيين حتي أستطيع الإجابة عن هذا السؤال إجابة شافية».
ما هي الصورة؟ لم يُسَلِّم الرئيس بالأمر، وقال لي: «إذن احكِ لي علي الأقل عما يقوله هؤلاء القليلون الذين تحدثت معهم».
«ينتابني الشعور بأن ما لقيه الجيش العراقي من مصير ومهانة يخلفان لديه المرارة. ولكنني إذا ما سألت عن غير ذلك من الأمور فإنني عادة ما يساورني الشك في أن ما يقال لي هو الحقيقة فعلا».
قبل أن يقلني الحارسان الشخصيان كنت قد تحدثت مع كبار الأطباء، وكبار الممرضات في مستشفي الواسطي. أردت أن أعرف ما تبدو عليه الصورة في مختلف الأقسام. هل كان في مقدورنا الاعتناء بكل المصابين الذين نُقلوا إلينا تباعا بشكل مُرضٍ؟ بطبيعة الحال كان كل شيء علي أتم وجه، فقد كان هناك ما يكفي من الأدوية ومن بقية التجهيزات، كما لم يكن هناك نقص في الأفراد العاملين.
واصلت حكاياتي قائلا: «لكنني عندما قمت بنفسي في أعقاب ذلك بجولة تفتيشية اتضح لي أن ثمانين في المائة مما أخبروني به لم يكن صحيحا».
ابتسم الرئيس، مضيفا: «أو ربما أكثر من ذلك بكثير».
واصلت حديثي قائلا: «إن انعدام الصراحة مشكلة كبيرة في عموم الإدارة. لو أنني كنت قد صدقت ما قاله لي العاملون من معلومات لكان قد غُرر بي، ولوقعت أخطاء فيما أقوم به من خطط قائمة علي هذه المعلومات. وكما قلتُ من قليل يا ريس، فإننا يجب أن نتنبه إلي أفعال الناس، وليس أقوالهم».
صمت الرئيس علي إثر ذلك.
المجيد الخبير بالقتل نقل صدام الي ابن عمه علي حسن المجيد المسؤولية الرئيسية لقمع انتفاضة الشيعة. كان المجيــــد قد تــــولي قيادة القوات التي زحفت علي الكويت. ربما كان ما قام به من قتل لا هوادة فيه في شمال العراق هو الأمر الذي رشحه في نظر صدام لمهمته الجديدة في جنوب العراق.
في مارس من عام 1987، أي بُعيْد الحرب ضد إيران، تولي ابن العم علي حسن المجيد ذو الستة والأربعين عاما التفويض الكامل بقمع حرب العصابات الدائرة لتحرير المناطق الكردية في الشمال بقيادة مسعود برزاني وجلال طالباني.
نحن معكم على مدار الوقت
هل يجرؤ الاحتلال على اغتيال المرجع السيستاني؟
القوات الامنية السعودية تعتقل المحلل العراقي عماد محسن المسافر في المدينة المنورة
اسرار احداث تشرين د. عادل عبد المهدي يكشف اسرارا تخص فترة توليه السلطة بالعراق