مايو 17, 2024

رساله الحريه والكرامه والعداله في زمن العبوديه

أنذال الوطنية في رواية البنسات الثلاثة لبريخت

أنذال.. بريخت!
في رائعته الخالدة “البنسات الثلاثة”، قدم الألماني برتولد بريخت صورة مفزعة مغموسة بكثير من السخرية السوداء عن المجتمع الإنجليزي البورجوازي في مستهل القرن العشرين الماضي، وتحديدا كانت الصورة عن العالم السفلي المشحون بالمجرمين، والنصابين، واللصوص، والقوادين، والشحاتين، جنبا إلى جنب مع رجال الشرطة الفاسدين والمسؤولين قليلي الذمة الوالغين في دماء مواطنيهم!


في الحروب عادة يموت الناس باستثناء العاملين في وزارة الحرب.. على حد تعبير الرواية، وتتوفر الفرصة للأنذال ليعلو صراخهم عن الوطنية والله والمثل العليا، في الوقت نفسه الذي يمارسون فيه ألاعيبهم ولصوصيتهم

تدور الرواية في زمن حرب البوير، وفي الحروب عادة يموت الناس باستثناء العاملين في وزارة الحرب.. على حد تعبير الرواية. وتتوفر الفرصة للأنذال ليعلو صراخهم عن الوطنية والله والمثل العليا، في الوقت نفسه الذي يمارسون فيه ألاعيبهم ولصوصيتهم وصفقاتهم الإجرامية لجني أكبر قدر من المكاسب المادية، ويقدمون لها أساسا فلسفيا بأنها في سبيل الوطن ومجد بريطانيا، والمثل العليا، وخدمة التقدم الاجتماعي والطبقات الفقيرة والجماهير الكادحة!  

ولأن رواية غنية الدلالات مثل “البنسات الثلاثة” يصعب تلخيصها بأمانة، فقد يكون من الأفضل عرض النماذج البارزة لأنذال الوطنية والمثل العليا كفاتحة شهية لمن لم يسفعه الحظ بقراءتها. 

النصاب الوطني الأول
في أحد المطاعم المتوسطة، التقى السمسار وليم كوكس مع ثلة من رجال حي المال والأعمال الذي اشتعل حماسا للوقوف بجانب الوطن أثناء الحرب، وخاصة أن الحكومة زبون مثالي لا مثيل له!

وكانت مناسبة الاجتماع أن السمسار علم من بعض رجاله في الإميريالية أن حكومة صاحبة الجلالة بحاجة لشراء سفن لنقل آلاف الجنود إلى ميدان المعركة، وفي انتظار الطعام استمعوا لموعظة وطنية من الطراز الرفيع.. هذه مقتطفات منها:


الحكاية تدور حول اكتشاف عملية نصب كبيرة أعدها بإتقان سمسار الوطنية، وشارك فيها بغباء رجال الأعمال لبيع الحكومة سفنا أقل ما توصف أنها توابيت عائمة، ومع تكشف الحقائق أيقن رجال الأعمال أنهم وقعوا ضحية عملية نصب نادرة

“موقف بلادنا خطير بحق.. بدأت المعركة لأن المواطنين البريطانيين المسالمين تعرضوا لهجوم مفاجئ وغير مبرر وبلا أدنى استفزاز من قبلهم.. وقوات صاحبة الجلالة هوجمت في كل مكان هجمات غادرة في معرض دفاعها عن الممتلكات البريطانية! سعة صدر الحكومة وحبها للسلام لم يعد مفهوما.. القوات البريطانية محاصرة.. والغرض من هذا الاجتماع هو تقديم العون السريع لها .. أيها السادة: لقد دقت الساعة التي يتحلى فيها رجل الأعمال البريطاني برباطة الجأش، والشجاعة، والمبادرة”.

تنتهي الموعظة الوطنية بالاتفاق على تلبية الحاجة إلى شراء سفن نقل نيابة عن الحكومة، وتأسيس شركة خاصة تدافع الحاضرون للمساهمة فيها تحقيقا لهذا الغرض الوطني النبيل!

ما حدث بعد ذلك مجرد تفاصيل من التعبير عن الوطنية الجارفة.. فقد تم شراء ثلاث سفن رخيصة الثمن قديمة إلى درجة أن مجرد التفكير في رؤيتها تمخر في البحر محملة بآلاف الجنود كان يبعث القشعريرة، وحتى أن بعض المكلفين بصيانتها رفضوا مجرد وضع السلم عليها خشية أن تتفكك أمام أعينهم!

بقية الحكاية تدور حول اكتشاف عملية نصب كبيرة أعدها بإتقان سمسار الوطنية، وشارك فيها بغباء رجال الأعمال لبيع الحكومة سفنا أقل ما توصف أنها “توابيت عائمة”.. ومع تكشف الحقائق أيقن رجال الأعمال أنهم وقعوا ضحية عملية نصب نادرة على يد كوكس، في الوقت الذي ظنوا فيه أنهم هم الذين سينصبون على الحكومة!

صديق الشحاذين
جوناثان بيتشام هو أحد المتورطين في صفقة السفن التوابيت، لكنه هو الآخر كان يمارس نوعا آخر من العمل الوطني الإنساني، فقد كان يدير منظمة سرية كبيرة للشحاذين بعد أن اكتشف أن الشحاذة ليست مجرد تسول بل هي مهنة، وفن، ورسالة.

وفي مدينة عظيمة مثل لندن هي محور العالم كله، صارت مهنة العاملين فيها أن يحملوا أرقاما وتصاريح مقابل ثمن معلوم يدفع لنقابتهم!


بدأ بيتشام نشاطه الوطني في الشحاذة بدعوى مقاومة البخل المتزايد لدى الجنس الإنساني، فافتتح دكانا صغيرا لإعارة الشحاذين أدوات ومعدات لتليين القلوب، وتقديم بعض الاستشارات التي تساعدهم في رسالتهم العظيمة

بدأ بيتشام نشاطه الوطني في الشحاذة بدعوى مقاومة البخل المتزايد لدى الجنس الإنساني، فافتتح دكانا صغيرا لإعارة الشحاذين أدوات ومعدات لتليين القلوب، وتقديم بعض الاستشارات التي تساعدهم في رسالتهم العظيمة من قبيل إيجاد أماكن لهم يتصدق فيها الناس أكثر أو مراعاة تغير الفصول، فأماكن التسول المناسبة في الشتاء تختلف عن الصيف، حيث يستحسن غزو الحدائق ومضايقة العشاق لإجبارهم على التصدق لإبعاد المتطفلين!

ثم تطور العمل حتى صار يضم مشغلا لخياطة الأزياء المناسبة، وينظم دروسا في الموسيقى ودروسا في فنون التظاهر بالإصابة بالشلل الرعاش، والسير كما العميان، وأصدر صحيفة اجتماعية “غصن الزيتون” تسهم في تزويد الشحاذين بأنباء وعناوين المناسبات الاجتماعية السعيدة والحزينة، وقصص حزينة وأخرى مختارة من الكتاب المقدس ليستفيد منها الشحاذون في عملهم الذي صار منظما تحت إدارة عصرية تأخذ عمولتها المقررة من الشحاذين نظير خدماتها المتنوعة بما فيها حفظ الأمن وإبعاد الدخلاء.

ومع ذلك كان صديق الشحاذين ينفجر غضبا عندما يقل الإيراد، ويسمع الموظفون منه مواعظ وطنية مثل “لا أسمح بحكاية الساعات الإضافية أو دفع أجور العمالة الزائدة.. هذه أوقات عصيبة.. عصيبة للغاية.. إن إنجلترا تقاتل في سبيل البقاء ونحن أيضا.. يجب أن نكف عن إرسال الرجال للشحاذة في أزياء عسكرية في الأيام التي تنقطع فيها حملات الإثارة الصحفية وأنباء الجبهة.. الحرب في حالة ركود.. ما هذا الذي أراه؟ هؤلاء ليسوا جنودا إنجليزا.. هل هذا منظر جندي إنجليزي. هذا منظر رجل متذمر رجل شيوعي مخلوق كهذا لن يموت من أجل إنجلترا.. الجنود فتيان في مقتبل العمر يفيضون جاذبية ورشاقة، والبذلة العسكرية يجب أن تكون نظيفة..”.

رجل الأعمال المحتال!
ماكهيث أحد رجال الأعمال “الشرفاء” الذين يؤمنون أيضا بالوطنية رغم أنه يدير إحدى أكبر العصابات والمحلات التجارية المشبوهة في لندن، وهو يصف منافسة الشركات الكبرى لشركته الصغيرة بأنها منافسة غير أخلاقية لأنهم يستخدمون اليد العاملة الأجنبية، ويتعاملون مع البنوك اليهودية، وحتى أنه رفض إلى حد المشاجرة وهو يخطط مع مساعده لسرقة أدوات حديثة من معرض مكافحة السرقة أن يقع الاختيار على النوعية الفرنسية أو كما قال لمساعده المعجب بها:


ماكهيث أحد رجال الأعمال الشرفاء الذين يؤمنون أيضا بالوطنية رغم أنه يدير إحدى أكبر العصابات والمحلات التجارية المشبوهة في لندن، وهو يصف منافسة الشركات الكبرى لشركته الصغيرة بأنها غير أخلاقية لأنهم يستخدمون اليد العاملة الأجنبية

“من العار أن يسرق الإنجليز بعضهم بعضا بمعدات فرنسية.. كيف يكون منظرنا أمام العالم متى تبين أننا نفضل منتجات الصناعة الفرنسية على منتجات بلادنا؟ إن مصيبتك الرئيسية أنك لا إحساس لديك البتة بمعنى كلمة الوطنية.. هذه المعدات التي تريدها ابتكرتها عقول مواطنيك.. عقول إنجليزية وأنتجتها الصناعة الإنجليزية، ولذلك يجب أن تكون كافية لكل إنجليزي..”.

وعندما أخبرته زوجته الشابة بولي التي تزوجها سرا أنها حامل (الحقيقة أنها حملت من رجل آخر قبل زواجهما بأسابيع!) راح يحلم بابنه القادم ويتخيل درسا في الأخلاق الضرورية يقدمه له:

“سوف أعلمه حقائق الحياة رأسا.. كيف يدير عملا وكيف يستغل غيره ويجعلهم يعملون من أجله، وكيف يستخلص النفع من إخوته بني الإنسان.. أعظم أساتذة التاريخ لم يكن يقدر أن يعلم أباك جديدا في كيفية خداع الناس والضحك على ذقونهم..”.

موعظة في تجريم الإجهاض!
وأرادت بولي ابنة صديق الشحاذين أن تتخلص من جنينها الحرام، فذهبت لعيادة يقوم صاحبها بإجهاض أمثالها، لكنها فوجئت بموعظة أخلاقية قاسية هذا جزء منها:

“هذا الذي تطلبينه يا عزيزتي مستحيل تماما.. هل فكرت أن الحياة الإنسانية مقدسة، وما تطلبينه مناف للقانون؟ ضميري لن يسمح لي حتى ولو كان المبلغ معك بالقيام بشيء كهذا.. أغامر بمستقبلي واسمي في سبيل عشرة أو عشرين جنبها؟ يجب على المرء ألا يستسلم لمشاعره مهما كانت ممتعة ثم تذهبين للطبيب مهرولة: ارحمني يا دكتور أنقذني.. لكنك لا تهتمين لما يمكن أن يتعرض له إن استسلم لطيبة قلبه التي لن تدعه يرفض لك طلبا.. حياة الجنين مقدسة والكنيسة لم تعلن ذلك سدى.. إنها عملية منافية للقانون وحتى إذا لم أستخدم المخدر حرصا على صحتك فإنها تتكلف 15 جنيها تدفع مقدما.. سيكون لدي وقت لاستقبالك مرة أخرى بعد ظهر السبت.. لكن فكري جيدا واحضري النقود معك وإلا فلا داعي لتحضري إطلاقا!”.
________________

* كاتب صحفي من اليمن المصدر : الجزيرة

YouTube
YouTube